نواصل عرض أهم أحكام محكمة العدل الدولية من خلال أحدث دراسات الفقيه المصرى المستشار الدكتور محمد عبد الوهاب خفاجى نائب رئيس مجلس الدولة المصرى المعروف بأبحاثه العلمية الوطنية بعنوان :” مسئولية الأمم المتحدة وحقوق مصر التاريخية فى مياه نهر النيل والاستقرار القضائى لمحكمة العدل الدولية توثيق لعداون إثيوبيا على قواعد الأنهار . دراسة تحليلية فى ضوء تدخل الأمم المتحدة فى النزاعات المائية النظيرة حماية للدول المتشاطئة من الإضرار بها , والمبادئ التى استنتها محكمة العدل الدولية فى وحدة المصالح للمجارى المائية لبيان عدوان إثيوبيا على مياه نهر النيل “, وهو الموضوع الذى توليه مصر موضع الأهمية القصوى ويشغل بال المجتمع الدولى ويؤثر على استقرار المنطقة بأكملها , ونظرا لما تعرضه إثيوبيا من مغالطات للمجتمع الدولى وجب تنوير الرأى العام العربى والإفريقى والعالمى وفقا لقواعد العلم القانونى والانصاف والتاريخ وأحكام محكمة العدل الدولية , وهو ما يتناوله الفقيه فى الجزء السابع من الدراسة للمبدأين السابع والثامن للمحكمة الدولية .
يقول الدكتور محمد خفاجى أن حكم محكمة العدل الدولية – وهي أعلى هيئة قضائية في منظومة الأمم المتحدة – الصادر فى 20 أبريل 2010 بشأن قضية مصانع اللب على نهر أوروجواى جاء مؤكداً على مبدأ عدم التسبب في ضرر جسيم في ضوء مبدأ أخر هو العناية الواجبة , وقد انتهت المحكمة إلى أن المبدأ المشار إليه لا يقصد به فقط ضرورة اعتماد معايير وتدابير مناسبة ، وإنما يقصد به أيضا وجوب ممارسة درجة معينة من اليقظة في تنفيذ المشاريع , وكذلك ممارسة الرقابة من النواحى الإدارية على الشركات العامة والخاصة من أجل الحفاظ على حقوق الدول الأخرى .
ويضيف الدكتور محمد خفاجى أن الاستقرار القضائى الدولى وفقاً لحكم محكمة العدل الدولية يقضى بالالتزام ببذل العناية الواجبة لمنع الضرر الجسيم العابر للحدود ووجوب الإخطار المسبق بالمشروعات الجديدة فى قضية مصنعى اللب على النهر الحدودى بين الأرجنتين وأوروجواى Pulp Mills case عام 2010 , وأيضا ضرورة تقييم الأثر البيئي المتعلق بالأنشطة التي لها آثار محتملة والعابرة للحدود , كما أكدت على مبدأ الاستخدام المنصف والمعقول , وخلصت المحكمة من ذلك إلى أن أوروجواي قد خرقت التزاماتها الإجرائية دون الالتزامات الجوهرية وأكدت على مبدأ التعاون والتشاور بين الدول النهرية المشتركة في مجرى مائي واحد وبصفة خاصة ضروة احترام مبدأ الإخطار المسبق عند الشروع فى إقامة أية مشروعات من دول المنبع على الأنهار الدولية والتي من شأنها الإضرار بدول المجرى المائي الأخرى سواء بتلويث مياه المجرى أو تقليل حصص المياه .
ويذكر الدكتور محمد خفاجى نقطة جوهرية أن مبدأ الإخطار المسبق عند الشروع فى إقامة أية مشروعات من دول المنبع على الأنهار الدولية والتي من شأنها الإضرار بدول المجرى المائي الأخرى سواء بتلويث مياه المجرى أو تقليل حصص المياه , لم تلتزم به إثيوبيا بصدد سد النهضة بحسبان أن تشكيل لجنة الخبراء لا يعدو أن يكون سوى من قبيل قواعد الإجراءات التمهيدية ولا ينطبق عليه وصف الإخطار بالمعنى الفنى الدقيق كما عناه المشرع الدولى وكما رمى إليه الاستقرار القضائى لمحكمة العدل الدولية .
ويضيف أن وقائع النزاع النهرى تتلخص فى أن أوروجواي شرعت فى بناء مصنعي لب من السليولوز يقعان على ضفاف نهر أوروجواي وهو النهر الحدودي بين الأرجنتين وأوروجواي حيث يخضع نهر أوروجواي لقانون أوروجواي للنهر لعام 1975 ينظم القواعد الخاصة بحماية النهر والمتطلبات الإجرائية لإخطار المشاريع وإنشاء لجنة مشتركة بين الأرجنتين وأوروجواى , وأن النزاع بدأ عام 2002 حينما قامت الشركة الإسبانية ENCE بإبلاغ الشركة الفنلندية Botnia CARU بعزمها على بناء مطحنة لب , وفي عام 2004 أخبرت الشركة عزمها على بناء مطحنة لب الورق السليلوزية على ضفة النهر، على أراضى الأوروجواي إلا أن الأرجنتين عارضت بشدة إقامة ذلك المشروع وعارض الشعب الأرجنتينى ذلك وفى عام 2006 لجأت الأرجنتين إلى محكمة العدل الدولية .
و بتاريخ 4 مايو 2006 ، أودعت الأرجنتين طلبًا لإقامة دعوى ضد أوروجواي بشأن انتهاكات من جانب أوروجواي للالتزامات الواقعة عليها بموجب النظام الأساسي لنهر أوروجواي ، وهي معاهدة وقعتها الدولتان في 26 فبراير 1975 لغرض إنشاء الآلية المشتركة اللازمة للاستخدام الأمثل والعقلاني لذلك الجزء من النهر الذي يشكل الحدود المشتركة بينهما. وقد اتهمت الأرجنتين أوروجواي بأنها سمحت من جانب واحد ببناء مطحنتين لباب على نهر أوروجواي دون الامتثال للإخطار المسبق الإلزامي وإجراءات التشاور بموجب قانون 1975 الأساسي , كما ادعت الأرجنتين أن هذه المطاحن تشكل تهديداً للنهر وبيئته ومن المرجح أن تسبب أضراراً بنوعية مياه النهر وأضراراً أخرى جسيمة عابرة للحدود للأرجنتين.
وقد كان طلب الأرجنتين فى بادئ الأمر مقصورا على طلب اتخاذ تدابير مؤقتة ، حيث طلبت أن تأمر أوروجواي بتعليق تراخيص بناء المطاحن وجميع أعمال البناء لحين حسم النزاع من المحكمة ؛ وطلبت تعاونها التعاون مع الأرجنتين بهدف حماية البيئة المائية لنهر أوروجواي والحفاظ عليها ؛ والامتناع عن اتخاذ أي إجراء انفرادي آخر فيما يتعلق ببناء المطاحن التي تتعارض مع النظام الأساسي لعام 1975 ، والامتناع عن أي إجراء آخر قد يؤدي إلى تفاقم النزاع أو جعل تسويته أكثر صعوبة.
وفى 29 نوفمبر 2006 ، قدمت أوروجواي بدورها طلبًا باتخاذ التدابير المؤقتة تأسيسا على أنه اعتبارًا من 20 نوفمبر 2006 ، قامت مجموعات منظمة من المواطنين الأرجنتينيين بإغلاق “جسر دولي حيوي” فوق نهر أوروجواي , ولم تبذل الأرجنتين أي جهد لإنهاء الحصار , واختتمت أوروجواى طلبها من المحكمة بأن تأمر الأرجنتين باتخاذ “جميع الخطوات المعقولة والمناسبة لمنع أو إنهاء انقطاع العبور بين أوروغواي والأرجنتين ، بما في ذلك إغلاق الجسور أو الطرق بين الدولتين بما يؤدى إلى تفاقم أو صعوبة تسوية هذا النزاع.
ويشير الدكتور محمد خفاجى أن المحكمة أصدرت حكمها في 20 أبريل 2010 انتهت فيه إلى أنه فيما يتعلق بحجة الأرجنتين بأن المشاريع قد أذن بها أوروغواي في انتهاك لآلية الإخطار المسبق والتشاور المنصوص عليها في المادة 7 إلى رقم 13 من النظام الأساسي لعام 1975 – الانتهاكات الإجرائية – فقد لاحظت المحكمة أن أوروجواي لم تبلغ اللجنة الإدارية لنهر أوروغواي (CARU) بالمشاريع على النحو المنصوص عليه في النظام الأساسي. وخلصت المحكمة إلى أنه من خلال عدم إبلاغ لجنة (CARU) بالأعمال المخطط لها قبل إصدار التراخيص البيئية الأولية لكل من المطاحن ولمحطة الميناء المجاورة لمصنعى (Orion) و (Botnia) ، وعدم إخطار الأرجنتين بالخطط من خلال CARU ، وأن أوروجواي قد انتهكت قانون 1975 الأساسى , كما أكدت المحكمة أنه بموجب قانون 1975 الأساسي يقع على عاتق الأطراف التزام قانوني قوامه مواصلة تعاونهم من خلال لجنة CARU وتمكينها من ابتكار الوسائل اللازمة لتعزيز الاستخدام العادل للنهر مع حماية بيئته.
ويختتم الدكتور محمد خفاجى صفوة القول أن محكمة العدل الدولية انتهت إلى أن أوروجواي ملزمة بموجب معاهدة بإخطار الأرجنتين والتشاور معها قبل السماح بمصانع اللب – ببناء واحدة من أكبر مصانع اللب في العالم في عام 2005 ، والتي كانت تحول رقائق الخشب إلى عجينة ورق على ضفاف النهر منذ نوفمبر 2007- والسماح ببدء البناء ؛ وأن أوروجواي خالفت هذا الالتزام , والرأى عندى أن هذا الحكم يُعد علامة فى فقه محكمة العدل الدولية بشأن قانون البيئة والمجاري المائية المشتركة حيث اعترفت المحكمة بتقييم الأثر البيئي وأصبح التزامًا للقانون الدولي العام , كما أوضحت المحكمة تعاريف “التنمية المستدامة” و “الاستخدام المنصف والمعقول” و “المجاري المائية المشتركة العابرة للحدود” من خلال تفسير تلك المصطلحات في ضوء وقائع هذه القضية , وأخيرا أكدت المحكمة على التزام الطرفين بتنسيق أنشطتهما التنظيمية للحفاظ على التوازن البيئي للنهر ، على النحو المطلوب في المادة 36 من النظام الأساسي لعام 1975 , مما يعكس أهمية الاهتمام المشترك المعبر عنه في قانون 1975 الأساسي.
وسوف نواصل عرض الجزء الثامن من دراسة الفقيه المصرى عن تحليله لأهم أحكام محكمة العدل الدولية وما قررته من المبادئ المؤيدة للموقف المصرى والداعمة لحقوق مصر التاريخية على مياه نهر النيل بما لا ينتقص من حصصها أو يسمح بالتصرفات الأحادية دون اتفاق وتفويض مع الدول المتشاطئة .