ورد سؤال إلى دار الإفتاء يقول فيه صاحبه” ما حكم التوسل بالنبي والصحابة والأولياء والصالحين مع ذكر أقوال الأئمة والعلماء في ذلك”، وجاء رد الدار على هذا السؤال كالتالي:
التَّوَسُّل: تَفَعُّلٌ من الوسيلة، والوسيلة في الأصل: ما يُتَوَصَّلُ به إلى الشيء ويُتَقَرَّبُ به، كما قال العلامة ابن الأثير في “النهاية” (5/ 185، ط. المكتبة العلمية).
وقضية المسلم في حياته: أن يتقرب إلى الله ويُحَصِّل رضاه وثوابه، ومن رحمة الله بنا أن شرع لنا العبادات وفتح لنا باب القربة إليه؛ فالمسلم يتقرب إلى الله بشتى أنواع القربات والطاعات.
وأجمع المسلمون أن النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم هو الوسيلة العظمى، واتفقت الأمة على التوسل به صلى الله عليه وآله وسلم من غير خلاف من أحد يُعتَدُّ به.
يقول الإمام المجتهد تقي الدين السبكي في كتابه “شفاء السقام” (ص: 119، ط. دائرة المعارف النظامية): [اعْلَمْ أنه يجوز ويَحسُنُ التوسلُ والاستغاثة والتشفعُ بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ربه سبحانه وتعالى، وجوازُ ذلك وحسنُه من الأمور المعلومة لكلِّ ذي دِين، المعروفةِ مِن فعل الأنبياء والمرسلين، وسِيَر السلف الصالحين، والعلماء والعوامِّ من المسلمين، ولم يُنكِر أحدٌ ذلك مِن أهل الأديان، ولا سُمِع به في زمنٍ مِن الأزمان، حتى جاء ابنُ تيمية؛ فتكلَّم في ذلك بكلام يُلَبِّسُ فيه على الضعفاء الأغمار، وابتدع ما لم يُسبَقْ إليه في سائر الأعصار] اهـ.
وأما جواز التوسل بالصحابة والصالحين وأهل الفضل، فقد روى البخاري في “صحيحه” عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: «اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا»، قال: فيسقون. وأخرجه الأئمة: ابن شبة في “تاريخ المدينة”، وابن خزيمة في “صحيحه”، وابن حبان في “صحيحه”، والطبراني في “الدعاء” من حديث أنس رضي الله عنه.
وأخرج الطبراني في “الدعاء”، والحاكم في “المستدرك” عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج يستسقي للناس عام الرمادة بالعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه فقال: “اللهم إن هذا عمُّ نبيك عليه السلام نتوجَّه به إليك فاسقنا” فما برحوا حتى سقاهم الله عزَّ وجلَّ، فخطب عمر الناس فقال: “أيها الناس إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يرى للعباس ما يرى الولد للوالد، ويعظمه ويفخمه، فاقتدوا أيها الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عمه العباس واتخذوه وسيلة إلى الله فيما نزل بكم”.
وفي رواية لأبي بكر الخلال في “السُّنَّة” عن موسى بن عمر، قال: أصاب الناس قحط فخرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستسقي وأخذ العباس فاستقبل القبلة، فقال: “هذا عم نبيك، جئنا نتوصل به إليك، فاسقنا به” فما رجعوا حتى سُقُوا.
ولقد نصَّ أئمة المذاهب المتبوعة وعلماء المسلمين عبر العصور على مشروعية التوسل بالأنبياء والصالحين، وعدُّوه من المستحبات الشرعية، ووشَّوا به كتبهم وزينوها. ومن النُّقول في ذلك:
قال العلامة السيد الشريف الجرجاني الحنفي في “حاشيته على شرح المطالع” (ص: 14، ط. دار الطباعة العامرة) موجهًا نفع التوسل بالصالحين وزيارة مراقدهم بعد وفاتهم: [فإن قيل: هذا التوسل إنما يُتَصَوَّرُ إذا كانوا متعلقين بالأبدان، وأما إذا تجردوا عنها فلا؛ إذ لا جهة مقتضية للمناسبة. قلنا: يكفيه أنهم كانوا متعلقين بها متوجهين إلى تكميل النفوس الناقصة بهمة عالية، فإنَّ أثر ذلك باقٍ فيهم، ولذلك كانت زيارة مراقدهم مُعَدَّةً لفيضان أنوار كثيرة منهم على الزائرين؛ كما يشاهده أصحاب البصائر ويشهدون به] اهـ.
وصنف علامةُ زمانه المحدِّثُ السيدُ محمد مرتضى الزبيدي الحنفيُّ رسالةً سمَّاها: “تحفة أهل الزُّلْفة، في التوسل بأهل الصُّفَّة”؛ كما ذكر في كتابه “تاج العروس” (24/ 26، ط. دار الهداية).
وقال بدر الدين العيني الحنفي في “شرح صحيح البخاري” (4/ 170، ط. دار إحياء التراث العربي): [فيه التبرك بمصلى الصالحين ومساجد الفاضلين. وفيه أن من دعا من الصلحاء إلى شيء يتبرك به منه فله أن يجيب إليه إذا أمن العجب] اهـ.
وقال الإمام الخادمي في “بريقة محمودية” (1/ 203): [نقل عن الزيلعي: ويجوز التوسل إلى الله تعالى والاستغاثة بالأنبياء والصالحين بعد موتهم؛ لأن المعجزة والكرامة لا تنقطع بموتهم.
وعن الرملي أيضًا بعدم انقطاع الكرامة بالموت. وعن إمام الحرمين: ولا ينكر الكرامة ولو بعد الموت إلا رافضي. وعن الأجهوري: الولي في الدنيا كالسيف في غمده فإذا مات تجرد منه فيكون أقوى في التصرف. كذا نقل عن “نور الهداية” لأبي علي السنجي] اهـ.
قال الإمام القرطبي المالكي في “التذكرة” (ص: 179، ط. مكتبة دار المنهاج): [نجانا الله من أهوال هذا اليوم بحق محمد نبي الرحمة وصحبه الكرام البررة، وجعلنا ممَّن حشر في زمرتهم ولا خالف بنا على طريقهم ومذهبهم] اهـ.
وقال الإمام ابن الحاج المالكي في “المدخل” (1/ 258، ط. دار التراث): [يُتوسل إلى الله تعالى بهم في قضاء مآربه ومغفرة ذنوبه، ويستغيث بهم ويطلب حوائجه منهم ويجزم بالإجابة ببركتهم ويقوي حسن ظنه في ذلك؛ فإنهم باب الله المفتوح، وجرت سنته سبحانه وتعالى في قضاء الحوائج على أيديهم وبسببهم، ومَن عجز عن الوصول إليهم فليرسل بالسلام عليهم وذكر ما يحتاج إليه من حوائجه ومغفرة ذنوبه وستر عيوبه إلى غير ذلك، فإنهم السادة الكرام، والكرام لا يردون من سألهم ولا مَن توسل بهم، ولا مَن قصدهم ولا مَن لجأ إليهم هذا الكلام في زيارة الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام عمومًا] اهـ.
وأخرج الحافظ ابن عساكر في “تاريخ دمشق” (51/ 323، ط. دار الفكر) عن الأصمعي قال: رأيتُ أمير المؤمنين المأمونَ سنة أربع عشرة ومائتين يقول: “لقد خص الله تعالى محمد بن إدريس الشافعي بالورع والعلم والفصاحة والأدب والصلاح والديانة، لقد سمعت أبي هارونَ يتوسل إلى الله به، والشافعي حيٌّ يُرزَق”.
وقال الإمام النووي الشافعي في “الأذكار” (ص: 176): [يستحب إذا كان فيهم رجل مشهور بالصلاح أن يستسقوا به فيقولوا: “اللهم إنا نستسقي ونتشفع إليك بعبدك فلان”] اهـ.
وقال الإمام ابن الجزري الشافعي في “الحصن الحصين” المطبوع ضمن: “تحفة الذاكرين بعدة الحصن الحصين” (ص: 60، ط. دار القلم): [ويتوسل إلى الله سبحانه بأنبيائه والصالحين] اهـ.
وقال الشهاب الرملي الشافعي في “فتاويه” (4/ 382، ط. المكتبة الإسلامية): [(سُئل) عما يقع من العامة من قولهم عند الشدائد: يا شيخ فلان يا رسول الله، ونحو ذلك من الاستغاثة بالأنبياء والمرسلين والأولياء والعلماء والصالحين، فهل ذلك جائزٌ أم لا؟ وهل للرسل والأنبياء والأولياء والصالحين والمشايخ إغاثة بعد موتهم؟ وماذا يرجح ذلك؟
(فأجاب) بأن الاستغاثة بالأنبياء والمرسلين والأولياء والعلماء والصالحين جائزة، وللرسل والأنبياء والأولياء والصالحين إغاثة بعد موتهم؛ لأن معجزة الأنبياء وكرامات الأولياء لا تنقطع بموتهم. أما الأنبياء فلأنهم أحياء في قبورهم يصلون ويحجون كما وردت به الأخبار وتكون الإغاثة منهم معجزة لهم. والشهداء أيضًا أحياء شوهدوا نهارًا جهارًا يقاتلون الكفار.
وأما الأولياء فهي كرامة لهم؛ فإن أهل الحق على أنه: يقع من الأولياء بقصدٍ وبغير قصدٍ أمورٌ خارقة للعادة يجريها الله تعالى بسببهم] اهـ.
قال أبو بكر بن أبي الخصيب: ذُكِرَ صفوانُ بنُ سُلَيْمٍ عند أحمدَ بنِ حنبل، فقال: هذا رجل يُستسقَى بحديثه، وينزل القطر من السماء بذكره” خرَّجه الحافظ ابن عساكر في “تاريخ دمشق” (24/ 134).
وقال العلامة ابن مفلح الحنبلي في “الفروع” (3/ 299، ط. مؤسسة الرسالة): [ويجوز التوسل بصالح، وقيل: يستحب] اهـ.
وقال الإمام المرداوي الحنبلي في “الإنصاف” (2/ 456، ط. دار إحياء التراث العربي): [يجوز التوسل بالرجل الصالح، على الصحيح من المذهب، وقيل: يستحب] اهـ.
وقال العلامة الصالحي الحنبلي في “الإقناع” (1/ 208، ط. دار المعرفة):[ولا بأس بالتوسل بالصالحين] اهـ.