بالنظر إلى توجيهات الرئيس عبد الفتاح السيسي بالتوسع في استخدام أحدث الوسائل الإلكترونية والتكنولوجية في منظومة عمل المحاكم، للمساهمة في سرعة الإجراءات واختصار زمن التقاضي، وكذلك تعميم نظام التقاضي عن بُعد في كافة المحاكم خلال الفترة القادمة وتطوير الجانب التقني بالتوسع في تطبيق تقنيات الذكاء الاصطناعي في تحويل الكلام إلى نص مكتوب خلال الجلسات القضائية , أجرى القاضى الفقيه المصرى الدكتور محمد عبد الوهاب خفاجى نائب رئيس مجلس الدولة دراسة عالمية قيمة فى أحدث مؤلفاته بعنوان ” المواجهة القضائية الإلكترونية العالمية لفيروس كورونا فى الالتزامات والعقود الوطنية والدولية ”
ونعرض فى الجزء الثانى من هذه الدراسة المهمة دولياً فى خمس نقاط : 1- أثر فيروس كورونا على العقود الدولية ومفهوم القوة القاهرة في المواثيق الدولية 2- ما هو التاريخ الذى يُعتد به في القوة القاهرة فى العقود الدولية بصدد إعلان تفشى فيروس كورونا ؟ 3- تأثير فيروس كورونا على العقود الدولية أهمها التنقيب عن النفط و المعادن النفيسة 4- كيف واجه مؤتمر القضاء الاتحادي للولايات المتحدة الأمريكية فيروس كورونا ؟ 5- الصين استخدمت الحلول التكنولوجية لإقامة العدل , والمحاكم الصينية استخدمت جلسات استماع عبر الإنترنت فى القضايا الجنائية والمدنية والإدارية خلال وباء كورونا.
أولاً : أثر وباء فيروس كورونا على العقود الدولية ومفهوم القوة القاهرة في المواثيق الدولية :
يقول الدكتور محمد خفاجى أنه على مستوى المواثيق الدولية , فقد نصت اتفاقية الجات الدولية سنة 1994 في المادة (7) منها على الأثر المعفى من المسئولية ومنها وقوع كوارث طبيعية أو توقف النقل أو قوة قاهرة أخرى تؤثر بصورة كبيرة على المنتجات المتاحة للتصدير , كما نصت المادة (6) من مبادىء العهد الدولي لتوحيد قواعد القانون الدولي الخاص حال وقوع القوة القاهرة على إنه يحق للطرف المتضرر أن يطلب التفاوض من الطرف الآخر على تعديل بنود العقد فإن قبلها الأخير يستمر في التنفيذ العقد الدولي , أما اذا فشلت عملية التفاوض فلا سبيل سوى فسخ العقد مع احتفاظ الطرف المتضرر بحقه في المطالبة بالتعويض .
وقد أشارت اتفاقية فينا 1980 المتعلقة بالبيع الدولي في المادة 79 إلى عدم تنفيذ العقد لظروف خارجة عن الإرادة والتي تنص على ما يلي : ” لا يسأل أحد الطرفين عن عدم تنفيذ أي من التزاماته إذا أثبت أن عدم التنفيذ كان بسبب عائق يعود إلى ظروف خارجة عن إرادته وأنه لم يكن من المتوقع بصورة معقولة أن يأخذ العائق في الاعتبار وقت انعقاد العقد أو أن يكون بإمكانه تجنبه أو تجنب عواقبه أو التغلب عليه أو على عواقبه ” وبالتدقيق في نص هذه المادة نجد أن اتفاقية فينا لم يرد فيها مصطلح القوة القاهرة بل نظمت إعفاءات عدم التنفيذ بسبب عائق يعود إلى ظروف خارجة عن إرادة الأطراف وهو ما يعرف بالقوة قاهرة .
كما نصت المادة (81) من اتفاقية فيينا لعام 1980 المتعلقة بالبيع الدولى المشار إليها على أنه بفسخ العقد يصبح الطرفان في حل من الالتزامات التي يرتبها عليهما العقد، مع عدم الإخلال بأي تعويض مستحق. ولا يؤثر الفسخ على أي من شروط العقد المتعلقة بتسوية النزاعات أو أي من أحكامه الأخرى التي تنظم حقوق الطرفين والتزاماتهما على فسخ العقد .
ثانياً : ما هو التاريخ الذى يُعتد به في القوة القاهرة فى العقود الدولية بصدد إعلان تفشى فيروس كورونا ؟
ويذكر دكتور محمد خفاجى أنه يثور التساؤل حول التاريخ الذى يُعتد به في القوة القاهرة لدى العقود الدولية بصدد إعلان تفشى فيروس كورونا , هل من تاريخ إعلانه من مهده في أول ظهور له بالصين أم تاريخ الإعلان عن تفشى الوباء داخل الدولة التى يوجد على أراضيها أعمال الطرف الدولى الذى يتمسك بالقوة القاهرة أم من تاريخ إعلان وباء فيروس كورونا كجائحة عالمية من منظمة الصحة العالمية ؟
إن الإجابة على هذا السؤال تكمن فى أن العبرة بالتاريخ هنا بتفشى وباء فيروس كورنا فى مكان انعقاد العقد , فلو أن مكان العقد جاء خالياً من فيروس كورونا فلا يتمسك الطرف الدولى بالقوة القاهرة لأن العقود الإدارية لا تعرف فكرة الضرر الاحتمالى , فيجب أن يكون الضرر واقعاً فعلاً حتى ولو كان قبل إعلان منظمة الصحة العالمية اعتباره جائحة , فهذا الإعلان لا يعدو أن يكون تعبيراً عالميا بأن هذا الوباء منتشرا فى السواد الأعظم من الكرة الأرضية .
ثالثاً : تأثير فيروس كورونا على العقود الدولية أهمها التنقيب عن النفط و المعادن النفيسة :
يضيف الدكتور محمد خفاجى أن العقود الدولية هي أداة قانونية قائمة في مجال المعاملات المالية الدولية لتسيير التجارة الدولية العابرة للحدود والقارات , وهذه العقود لا تختلف عن عقود التجارة الوطنية من حيث كونهما يخضعان معاً لأحكام القوة القاهرة إذا ألمت بالعقد , وللعقود الدولية أهمية كبرى في العصر الحديث وفى مجالات عدة ومثالها عقد البيع و عقد النقل وعقد الترخيص التجاري والصناعي، وعقد نقل التكنولوجية ، وعقود الانشاء الدولية ، وعقود التنقيب عن النفط و المعادن النفيسة وغيرها مما تستحدثه تكنولوجيا العصر .
إن أطراف العقد التجاري الدولي بين دولتين فأكثر حسب طبيعة الالتزام التعاقدى ونوعه , وما من ريب في اختلاف الإجراءات الاحترازية التي تتخذها كل دولة عن الأخرى بشأن الحد من انتشار فيروس كورونا من الأمور التى تقف على أعتاب تنفيذ تلك العقود , وتلك الإجراءات تختلف ضيقاً واتساعا من دولة لأخرى من حيث الحظر الكلى أم الحظر الجزئى وحظر الطيران مطلقاً أم كلياً , ولا شك ذلك كله مع قوة أو ضعف انشار الفيروس في الدول الأطراف له تأثيره على مظاهر القوة القاهرة في تنفيذ تلك العقود التى إن توافرت تعفى من المسئولية .
رابعاً : كيف واجه مؤتمر القضاء الاتحادي للولايات المتحدة الأمريكية فيروس كورونا ؟
يقول الدكتور محمد خفاجى تتخذ المحاكم الفيدرالية في جميع أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية خطوات جادة لتحقيق التوازن بين صحة وسلامة الموظفين والمتقاضين والجمهور ومسئوليتهم الدستورية عن إبقاء المحاكم تعمل أثناء جائحة فيروس كورونا (COVID-19) وتطلب العديد من المحاكم العمل عن بُعد , وتنشر على أوامر وإشعارات مواقع الإنترنت الخاصة بهم التي تتعلق بخدمة هيئة المحلفين ، والمواعيد النهائية لتقديم الطلبات ، وغيرها من أعمال المحكمة .
ولقد أدى الانتشار السريع للفيروسات التاجية الجديدة في جميع أنحاء المجتمعات الأمريكية إلى شل المحاكم في جميع أنحاء البلاد ، حيث حاول القضاة والمحامون والمدعى عليهم التعامل مع كيفية تحقيق العدالة بموجب القانون مع موازنة مخاوف السلامة العامة وسط جائحة فيروس كورونا , وعلى سبيل المثال ، فإن فكرة هيئة المحلفين المكونة من 12 شخصًا تخلق قضايا لوجستية مع المبادئ التوجيهية الفيدرالية والمحلية للمسافة الاجتماعية أثناء الوباء ، مما ينتهك توصية البيت الأبيض بتجنب مجموعات تضم أكثر من 10 أشخاص , ومن ثم يجب النظر فى تنظيم الحضور للمحكمة الدستورية العليا ودوائر النقض والمحكمة الإدارية العليا, وكان من نتائج الجائحة أن أغلقت عشرات المحاكم الفيدرالية البالغ عددها 94 محكمة في الولايات المتحدة وتأخرت المحاكمات , وفقًا للمركز الوطني لمحاكم الولايات ، وقام 30 نظامًا من محاكم الولايات ومقاطعة إما بتقييد أو إنهاء المحاكمات أمام هيئة محلفين ، مع تعليق العديد من الإجراءات الشخصية بالكامل خلال انتشار الجائحة .
وقد اتخذت المحكمة العليا خطوة استثنائية بتأخير القضايا المقررة في شهري مارس وأبريل 2020 ، مما أدى إلى تأجيل الحجج الشفوية فيما يتعلق بأهم تعطيل لأعمال المحكمة منذ وباء الإنفلونزا الإسبانية عام 1918, وعقد القضاة الأمريكيون مؤتمرهم الخاص المعتاد يوم الجمعة لكن جميع القضاة شاركوا عبر الهاتف , وقد قررت المحاكم الفيدرالية الدنيا اتباع المبادئ التوجيهية للصحة العامة وتقييد الإجراءات التي تشمل أكثر من 10 أشخاص ، وفقًا للمكتب الإداري للمحاكم الأمريكية ، الذي يشرف على نظام المحاكم الفيدرالية على الصعيد الوطني.
خامساً : الصين استخدمت الحلول التكنولوجية لإقامة العدل والمحاكم الصينية استخدمت جلسات استماع عبر الإنترنت فى القضايا الجنائية والمدنية والإدارية خلال وباء كورونا:
يذكر الدكتور محمد خفاجى تتصدر الصين العالم ليس فقط في الإجراءات الصارمة التي اتخذها للسيطرة على انتشار فيروس كورونا حينما بدأ حياته على أرضها ، حيث قدمت العديد من الحلول التكنولوجية التي طبقتها لإقامة العدل مع إغلاق المدن وبناء مستشفيات جديدة في غضون أسبوع فقط ، فقد كشف الواقع العملى عن أن المحاكم الصينية قد تكيفت بسرعة فائقة من خلال إجراء أعمالهم عبر الإنترنت , وقد ساعدها على ذلك أن التكنولوجيا الضرورية موجودة بالفعل , حيث أنشأت الصين أول محكمة إنترنت لها في مدينة هانغتشو الشرقية في أغسطس 2017 ، تبعها إنشاء محاكم مماثلة في بكين وقوانغتشو في سبتمبر 2018.
ويضيف الدكتور محمد خفاجى أن محكمة الشعب العليا في الصين قد أعلنت أنه بالنظر إلى أن الوباء قد يستمر لبعض الوقت ، أمرت محكمة الشعب العليا ، وهي أعلى محكمة في البلاد ، المحاكم على جميع المستويات بتوجيه المتقاضين إلى رفع الدعاوى أو التوسط في النزاعات عبر الإنترنت ، وتشجيع القضاة على الاستفادة الكاملة من أنظمة التقاضي عبر الإنترنت ، بما في ذلك تلك المتعلقة برفع القضايا وتسليم الأحكام ، لضمان حصول المتقاضين ومحاميهم على خدمات وحماية قانونية أفضل. وشجعت محكمة الشعب العليا الصينية على استخدام “المحكمة الصغيرة المحمولة” على منصة التواصل الاجتماعي We Chat في 12 مقاطعة ومدينة لمساعدة المحاكم على إجراء المحاكمات على الإنترنت.
وعلى الصعيد العملى في إحدى القضايا ، استمع قاضي محكمة محلية ، “يرتدي رداءً ويواجه الشاشة” ، إلى قضية جنائية دون حضور أي من الأطراف جسديًا. تتعلق القضية بانتهاك لوائح الوقاية من الأوبئة ومكافحتها , وخلص التقرير إلى أنه “مع استكمال الإجراءات القانونية ، حُكم على المتهم بالسجن تسعة أشهر”. وفى قضية أخرى تم وصفها على موقع محكمة الشعب العليا الصينية على الإنترنت ، استخدم قاض في محكمة الشعب المتوسطة رقم 1 في بكين تطبيقًا لنظام اتصال فيديو عبر الإنترنت يسمى Yunshenpan ، والذي يعني حرفياً “المحاكمة في السحابة” ، لإكمال جلسة استماع بشأن نزاع على قرض خاص , وقال القاضي تشين شي إن استخدام التطبيق “لم يلبي متطلبات التقاضي من الطرفين فحسب ، بل ضمن صحتهم وسلامتهم خلال فترة الوباء”.
وصفوة القول إذن , أن المحاكم في الصين تستخدم جلسات استماع عبر الإنترنت للتعامل مع كل من القضايا الجنائية والمدنية والإدارية خلال وباء الفيروس التاجي كورونا , وكان إنشاء المحاكم الصينية على الإنترنت هو أهم التطورات الرائدة الموصوفة في أحدث كتاب للمستشار القانونونى الفقيه ريتشارد ساسكيند بعنوان ” المحاكم عبر الإنترنت ومستقبل العدالة “2019 OUP”
وسوف نعرض للجزء الثالث من الدراسة العالمية القيمة بعنوان ” المواجهة القضائية الإلكترونية العالمية لفيروس كورونا فى الالتزامات والعقود الوطنية والدولية ” للقاضى الفقيه المصرى الدكتور محمد عبد الوهاب خفاجى نائب رئيس مجلس الدولة المصرى .
المزيد من الأخبار
اضغط للتعليق